فصل: الفصل الثاني في التعريض بالقذف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


الفصل الثاني في التعريض بالقذف

قاعدة، الصريح في كل باب‏:‏ ما يتعين له وضعًا، والكناية‏:‏ ما يحتمله مع غيره‏.‏

وفي الكتاب‏:‏ إن قال‏:‏ يا مخنث، حد، إلا أن يحلف ما أراد قذفا، فيؤدب‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال غيره‏:‏ هذا إن كان في كلامه، أو عمله، أو بدنه توضيع، وإلا حد، ولم يحلف؛ لاشتهاره في الفاحشة‏.‏ وأصل التخنث‏:‏ الميل، وقد يكون صاحبه متقيًا، ومنه المخنث‏:‏ الذي يدخل على بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏وتخنثه الصاننه‏)‏‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ يا فاجر، أو يا فاسق، أو يا ابن الفجرة أو الفاسقة، حد، أو يا خبيث، حلف‏:‏ ما أراد قذفا؛ لقلة ظهوره في القذف، فإن لم يحلف، سجن حتى يحلف، فإن طال سجنه، نكل على حسب حاله، والمعروف بالأذية يبالغ في عقوبته‏.‏ والفاضل ذو المرؤة، يتجافى عن حقيقته، ويخفف في أدب عظيمة، ويا تاجر فلانة، يحد، إلا أن يقيم بينة على أمر صنعه معها من الفجور، كجحد مال ونحوه، ويحلف‏:‏ ما أراد إلا ذلك؛ لأنه يحتمل جامعت فلانة‏.‏ وإن قال باضعتها حرامًا، أو وطئتها، وقال‏:‏ أردت تزويجها حرامًا، أو قال ذلك عن نفسه، وطالبته المرأة، حد، إلا أن يقيم بينة على مراده، ويحلف‏:‏ ما أراد إلا ذلك، وكنت وطئت أمك، وقال‏:‏ اردت النكاح‏.‏ إن أتى ببينة أنه تزوجها، لم يحد، وإلا حد‏.‏ وإن قال له‏:‏ ما أنا بزان، أو أخبرت أنك زان، حد، أو أشهدني فلان أنك زان، حد، إلا أن يقيم بينة على قول فلان، وكذلك يقول لك فلان‏:‏ يا زان، أو جامعتها بين فخذيها، أو أعكانها، حد، وقال الأئمة‏:‏ لا حد في التعرض‏.‏ غير أن مالكًا قال‏:‏ يحد به إن نوى به القذف، كسائر الكنايات في الطلاق وغيره‏.‏ لنا‏:‏ قوله تعالى عن قوم شعيب‏:‏ ‏(‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏)‏، ومرادهم‏:‏ ضد ذلك، وهو كثير القرآن‏.‏ وفي الموطأ ‏(‏أن رجلين استبا على عهد عمر - رضي الله عنه - فقال أحدهما‏:‏ والله ما أبي بزان، ولا أمي بزانية، فاستشار عمر بن الخطاب، فقال قائلون‏:‏ مدح أباه وأمه، وقال آخرون‏:‏ قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فجلده عمر ثمانين، وقال‏:‏ ‏(‏حمى الله لا ترعي حواليه‏)‏ ولأنه ينفهم القذف، فيحد به كالصريح‏.‏ احتجوا بأنه يحتمل القذف وغيره، فلا يوجب، كما إذا قال‏:‏ اسقني ماء، وقال‏:‏ اردت القذف‏.‏ وهذا أبلغ؛ لأنه صرح بإرادته القذف؛ ولأنه لما احتمل الأمر، وجب أن يرجح اللفظ على الموجب، كالأمة المشتركة‏.‏ وهذا أولى للقطع بوجود الموجب، وهو النصيب الذي ليس بمشترك، ومع ذلك سقط الحد‏.‏ ولأنه تعريض، فوجب أن يحلق بالتصريح، كالخطبة في العدة؛ ولأنه لا يكون قذفًا مع عدم القرائن، كقوله‏:‏ أنت جميلة وأريبة‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أن القرائن مع اللفظ تصيره كالصريح، بخلاف مجرد النية؛ لذلك تقول العرب‏:‏ رب إشارة، أفصح من عبارة، والتعريض عندهم أبلغ موقعًا‏.‏

وعن الثاني‏:‏ الفرق بأن القرائن تنفي الاحتمال الآخر، فيصير كوطء الأجنبية‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن هذا الباب أحرج؛ لأنه لو أراد بالتعريض القذف، حرم اجماعًا، ولو أراد النكاح، عين الج‏.‏

وعن الرابع‏:‏ منع الحكم إذا صيرته القرائن تصريحًا في القذف، وإلا فعدم القرائن يعني الفرق‏.‏

تفريع‏:‏

قال ابن يونس في الموازية‏:‏ القائل‏:‏ يا قرنان لرجل، جلد لزوجته؛ لأنه عند الناس من امرأته تفجر ‏(‏قاله ابن القاسم‏)‏، وقال يحيى بن عمر‏:‏ لا يحد، ويجلد عشرين، ويأمر آخر، وقال أشهب‏:‏ يحد، قال يحيى بن عمر، يا قبحة، يحد؛ لأن العرب كانت تدعوا على الفاجرة بالقحاب والهرثاء، أي‏:‏ السفال، والقبح في الدابة، حتى صارت الفاجرة تسمي قبحة؛ لغلبة الاستعمال‏.‏ ويا مأبونا، قال عبد الملك‏:‏ يحد؛ لأنه من الأبنة‏:‏ وهي داء في الدبر، يبعث على طلب ما يحك به ذلك الموضع، وإن اشتهر في اللواط في المفعول به‏.‏ وإن قال له‏:‏ يا ابن الزانية، فقال له‏:‏ أمك شر منها، في الموازية‏:‏ يحدان‏.‏ أو يا أحمق، فقال الآخر‏:‏ أحمقنا ابن الزانية، يحد‏.‏ وعن ابن القاسم في‏:‏ يا فاجر بفلانة، يحلف‏:‏ ما أراد قذفا، وكذلك يا خثبت، ويا ولد إيش، قال ابن القاسم‏:‏ يحد، ويا ابن الفاسقة‏.‏ والفاجر، يحلف، فإن امتنع سجن، وإن طال سجنه ولم يحلف، أدب وخلي‏.‏ وقال عبد الملك‏:‏ في هذا كله النكال، ويا مؤنث، وفي كلامه لين، حلف، وأدب‏.‏ وقال أشهب‏:‏ يحد في‏:‏ زنى فرجك، دون‏:‏ زنت رجلاك، ويا ابن منزلة الركبان، يحد؛ لأن المرأة في الجاهلية كانت إذا طلبت الفاحشة أنزلت الركبان، وكذلك يا ابن ذات الراية؛ لأن في الجاهلية كانت على باب البغية راية‏.‏

تنبيه‏:‏ ضبط هذا الباب‏:‏ الاشتهار العرفية، أو القرائن الحالية، فمتى فقد حلف، أو وجد أحدهما، حد، وإن انتقل العرف، فيقال‏:‏ الأصل‏:‏ الحد، ويختلف ذلك بحسب الأعصار والأمصار، وبهذا يظهرأن ذات الراية، ومنزلة الركبان، لا يوجب حدا، وأنه إن اشتهر لفظ أحدهما، لا يوجب حد، إلا في القذف أوجب الحد‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن قال‏.‏ رأيت فلانا مع فلانة في بيت، أو على بطنها، أو قال‏:‏ في لحاف، أو قال رأيتك تطلب امرأة في أثرها، أو تقبلها، أو اقتحمت عليها بيتها، أو في مقعد الرجل من المرأة، لا يحد، بل يؤدب؛ لأن ذلك لا يتوقف على الزنا، ويحلف‏:‏ ما أراد قذفًا، أو قال لامرأته‏:‏ قد سرحتك من زنا، حد، ولا طلاق عليه‏.‏ قال مطرف‏:‏ إن قال‏:‏ كيف تكلمني وأنا نكحت أمك‏؟‏ وكانت زوجتي، قال مالك‏:‏ إن لم يقم بينة أنه تزوجها‏:‏ حد للقذف، وقال عبد الملك‏:‏ لا يحد؛ لأنه لو أقام شاهدين بالزواج كفاه، ولو كان قذفًا لم يجرح، إلا بأربعة‏.‏ ولو كان في غير منازعة، لم يحد وإن قذفه فشكاه، ثم خاصم آخر، فقال له‏:‏ سمعت فلانًا يقول لك‏:‏ يا زان، فمالك اشتكيته، أي‏:‏ موجدة عليك، فيحد‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يحد الأب بالتعريض، بل بالتصريح، كالقصد في القتل، ويجوز عفوه عن القذف، وإن لم يرد سترًا عند الإمام، وقال أصبغ‏:‏ لا يحد الأب أصلاً؛ لعظيم حقه‏.‏ وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏، وفي المنتقى‏:‏ وإن حده أسقطنا عدالة الابن؛ لأنه عقوق، وإن قال لولده‏:‏ لست ابني، فطلبت الأم أو الولد من غيره الحد لقذف وقد كان فارقها، فعفا ولده، قال مالك‏:‏ يحلف‏:‏ ما أراد قذفًا، بل لو كان ولدي ما كان يصنع ما صنع، قال‏:‏ وهذا يقتضي الحد إن لم يحلف، وأنه لا يسقط بعفو الولد إذا قام البعض، فالحد وغيره لا يلحق بالأب، بل يحدون ولا يعذرون في الشتم إن كان على وجه الأدب، قال ابن القاسم وأشهب‏:‏ يجوز عفوه عن جده لأبيه، وإن بلغ الإمام، دون جده لأمه؛ لأنه لا يدلي في الميراث بهما، وقال عبد الملك‏:‏ يجوز عفوه عن أمه وإن لم يرد سترًا؛ لأن الإشفاق قد يحمله عند رؤيتها على الاعتراف بالزنا‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ يا بغل، يوجب الحد، وإن قال لنفسه‏:‏ أنا بغل، حد؛ لأنه قذف أمه‏.‏

الفصل الثالث في صريح اللفظ والنفي

النفي عندنا موجب للحد ‏(‏قاله أحمد‏)‏، وقال ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏:‏ إذا قال العربي‏:‏ يا قبطي، وقال‏:‏ أردت قبطي اللسان أو الدار؛ لأنه نشأ فيها، صدق بعد يمينه، أو قال‏:‏ أردت أنه ليس من أبيه، حد إن كانت أمة محصنة يحد قاذفها، وإلا فلا؛ لأن الله تعالى جعل سبب الحد في القذف الزنا في المحصن؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ‏)‏‏.‏ لنا‏:‏ قوله - عليه السلام -‏:‏ ‏(‏لا أوتى برجل يقول‏:‏ إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته‏)‏‏.‏ وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ‏(‏لا حد إلا في اثنين‏:‏ قذف محصنة، ونفي رجل من أبيه‏)‏ ولا يقول هذا إلا توقيفًا‏.‏ وعلل صاحب المنتقي وغيره، بأن النفي قذف، وهو يبطل بأن الأم قد تكون لا يحد قاذفها، وقد تكون مجهولة‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إن قال لمسلم‏:‏ لست لأبيك، وأبواه نصرانيان، حد، وكذلك إن قال‏:‏ لست ابن فلان، لجده، وجد أمه كافر، أو لرجل من ولد عمر بن الخطاب‏:‏ لست ابن الخطاب‏:‏ وإن قال‏:‏ ليس أبوك الكافر ابن أبيه، لم يحد، حتى يقوله لمسلم؛ لأن الكافر لا يحد له، وإن قال‏:‏ لست ابن فلان لجده، وقال‏:‏ أردت‏:‏ لست ابنه لصلبه، حد، وإن قال‏:‏ أنت ابن فلان - نسبه لجده في مشاتمة وغيرها - لم يحد، وكذلك إن نسبة إلى جد لأمه؛ لأنه كالأب يحرم عليه ما نكح، فإن نسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه، حد‏.‏ وإن قال لعربي‏:‏ لست من بني فلان لقبيلته التي هو منها، حد، وإن كان مولى، لم يحد بعد أن يحلف‏:‏ ما أراد نفيًا، أو قال لعربي‏:‏ يا قبطي، حد، وإن قاله لمولى، حلف، ونكل، وإن نكل، لم يحد، ونكل‏.‏ وفي النكت‏:‏ يجب الحد بالنفي كان الأبوان كافرين أو عبدين، قال مالك وأصحابه فإن عفا، وأبواه عبدان أو كافران نفذ عفوه، أو مسلمان حران، فلهما القيام بالحد، وكذلك إن كان أبوه مسلمًا وأمه نصرانية أو أمة، فلا يثبت القيام؛ لأنه حمل أباه على غير أمه بنسبة للزنا، أو انعكس الحال بين الأبوين، قامت الأم بالحد؛ لأنه نسبها إلى الزنا، وإن قال ذلك لعبد، لا يحد له، وأبواه عبدان، أو كافران، لم يحد، وأبواه حران مسلمان، حد، وكذلك إن كانت الأم حرة مسلمة، والأب عبدًا؛ لأنه رمى أمه، أو أمة أمه، أو كافرة، وأبوه مسلم، حد ‏(‏قاله ابن القاسم‏)‏، وقال أشهب‏:‏ لا حد في نفي العبد، قال ابن يونس في الموازية‏:‏ يا ولد زنا، أو أنت لزنية، أو ولد زنية، حد، وإن كانت مملوكة أو مشتركة، بخلاف يا ابن الزاني أو الزانية، إن كانا عبدين أو كافرين؛ لأن هذا قذف لهما والأول نفي‏.‏ وإن قال‏:‏ لست ولد فلان، لجده، وقال‏:‏ أردت‏:‏ لست لصاحبه، حد، كان جده مسلمًا أم لا، قال أشهب‏:‏ هذا إذا كان ولادة جده في الإسلام، ولم يكن مجهولاً، وكذلك إذا نفاه عن أبيه دنيه؛ لأن المجهولين لا يثبت نسبهم ولا يتوارثون بها‏.‏ وإن كان من العرب، حد‏.‏ وإن كان ولادة أبيه أو جده في الجاهلة، وولد المقول له في الإسلام‏.‏ وإن قال‏:‏ لست من موالي فلان - وهو منهم - حد، وكذلك، لست من الموالي، وله أب معتق، بخلاف‏:‏ لست مولى لفلان، وفلان قد أعتقه؛ لأنه لم ينفه من نسب‏.‏ ولست ابن فلان، وأمه أم ولد، حد‏.‏ وليس بابن فلانة، لا يحد؛ لأنه معلوم الولادة منها، فلم يؤثر ذلك في عرضه‏.‏ وإن قال لعبد - وأبواه حران مسلمان - لست لأبيك، حد السيد، فإن ماتا ولم يرثهما أحد أو ورثهما غيره، فله حد سيده‏.‏

الفصل الرابع في التعريض بالنفي

في الكتاب‏:‏ قال لعربي يا فارسي، أو نحوه، حد، أو قال‏:‏ يا بن الأقطع، واختلف عن مالك في القائل لبربري أو رومي‏:‏ يا حبشي، هل عليه الحد أم لا‏؟‏‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وأرى عدم الحد، إلا أن يقول له‏:‏ يا ابن الأسود، وليس في آبائه أسود‏.‏ وإن قال لفارسي‏:‏ يا عربي، لم يحد، أو لعربي‏:‏ يا فارسي‏:‏ أو لمصري يا يماني، أو لعبسي‏:‏ يا كلبي، حد؛ لأن العرب تنسب إلى آبائها، وهذا نفي لها، أو قال‏:‏ يا ابن الأعجمي، وليس أحد من آبائه كذلك، حد، أو يا ابن الحجام أو الخياط، وهو من العرب، جلد الحد، إلا أن يكون في آبائه، أو من الموالي، حلف‏:‏ ما أراد قطع نسبه؛ لأن هذه الصفات في الموالي أكثر من العرب‏.‏ ويا ابن المطوق، يعني‏:‏ الراية التي تجعل في الأعناق، لا يجد في الموالي دون الأعراب؛ لأن هذه الأعمال أعمال الموالي‏.‏ وإن قال‏:‏ يا يهودي، لم يحد، بخلاف يا ابن اليهود، إلا أن يكون من آبائه يهودي‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ يا ابن البربرية، وأمه عربية، قال عبد الملك‏:‏ لا يحد؛ لأنه لا نفي على الأم، وقال مطرف‏:‏ يحد إلا أن يسميها باسمها؛ لأنه نفي أمه من ابنها‏.‏ وسواء قال لرومي‏:‏ يا حبشي، أو يا ابن الحبشي، لا يحد، ويحلف ما أراد نفيه‏.‏ ولمالك في الحد قولان‏.‏ وفي النوادر‏:‏ إن قال لمولى‏:‏ ليس فلان أعتق أباك، وهو الذي أعتقه، حد؛ لأنه نفاه عن أنه عتيق هذا‏.‏ وإن قال الأب‏:‏ ليس فلان أعتقك، لم يحد، وقال ابن وهب‏:‏ لا يحد فيهما؛ لأنه نفي عتقا لا نسبًا، ويعاقب‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ وإن قال‏:‏ مالك أصل ولا فصل، فعن ابن القاسم‏:‏ لا يحد، وقال أصبغ‏:‏ يحد، بناء على قوله‏:‏ إنه أراد النفي أو الشتم، وقيل‏:‏ إلا أن يكون من العرب، فعليه الحد‏.‏ وإن قال لابن أمة أو كتابية‏:‏ يا ابن الزانية، لم يحد، أو يا ابن زنية، حد‏.‏ والفرق‏:‏ أن الثاني نفي نسب بإضافته إلى فعل لا يلحق الولد فيه، والأول قذف لأمه‏.‏ وإن قال مولى لعربي‏:‏ أنا خير منك، حد، وكذلك لو قاله أحد ابني عم لصاحبه‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ في المسألتين اختلاف، وبهذا أقول‏.‏

الثاني في أحكام القذف

وفي التنبيهات‏:‏ للحد عشرة شروط، ستة في المقذوف، وأربعة في القاذف‏:‏ أن يكون المقذوف عاقلاً، مسلمًا، حرًا، بالغاً للتكليف إن كان ذكرًا، أو قدر الوطء إن كان أنثى، وإن لم تبلغ التكليف، وفيه خلاف، بريء من الفاحشة التي قذف بها معه إليها، وأن يكون القاذف عاقلاً، بالغًا، صرح بالقذف، أو عرض به، يمكن إقامة الحد عليه لصحته‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ يحد المحصن، وهو الذي اجتمعت شروطه، منها العفة، ومعناها‏:‏ أن لا يكون معروفًا بالقيان، ومواضع الفساد، والزنا‏.‏ ولا يسقط الحد كونه معروفًا بالظلم، والغصب، والسرقة، وشرب الخمر، وأكل الربا، ويسقط الإحصان كل وطء يوجب الحد، بخلاف الذي لا يوجبه، كوطء الأمة المشتركة، والمحرمة بالرضاع ونحوه، وكذلك وطء الشبهة أو في الصبا‏.‏ ويسقط إحصان المقذوف بالوطء الطاريء بعد القذف، وقاله ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏‏.‏ وأن الشروط يعتبر استدامتها إلى حالة إقامة الحد؛ لأنه لو ارتد، لم يقم الحد؛ ولأن طرؤه ينبه أن تقدم منه، وقال أحمد‏:‏ لا يسقط‏.‏ كما لو زنى بأمة، ثم اشتراها، أو سرق عينا فنقصت قيمتها، أو ملكها، ومنع استدامة الشروط، إلا إلى حين توجه الحد‏.‏ ومتى سقط الإحصان بالزنا مرة، لم يعد بالعدالة بعده‏.‏ وروى عبد الملك‏:‏ إن قذف من حد بالزنا بعد أن حسنت توبته، لم يحد‏.‏

تنبيه‏:‏ ينبغي أن يزاد في شروط المقذوف‏:‏ أن يكون معروفًا، فإن المجهول لا يحد له، لكن ترك؛ لأن تلك الشروط لا تعلم إلا في معروف، وكون الإحصان لا يعود بعد العدالة ‏(‏نقله صاحب النوادر وغيره‏)‏، ومستنده، أن المراد بالعفاف‏:‏ العفاف المطلق، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الغافلات‏)‏ أي‏:‏ اللاتي لم يخطر لهن الفساد، ولا يشعرن به قط، فتحمل الآية الأخرى على هذه؛ لأنها مطلقة وتلك مقيدة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏)‏، وهذا قد شهر بالزنا وفعله، فلا يكون ممن يحد له‏.‏ والأصل‏:‏ عدم الحد، بل يؤدب على القاعدة‏.‏ وأصل هذا الباب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم‏)‏‏.‏ وللإحصان في القرآن أربعة معان‏:‏ العفاف، وهو المراد بهذه الآية، والثاني‏:‏ الزوجات، في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏محصنات غير مسافحات‏)‏، والثالث‏:‏ الحرية في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإذا أحصن‏)‏، ووافقنا الأئمة على شروط الإحصان، غير أنهم قالوا‏:‏ لا بد من البلوغ قياسًا على العقل، ولم يخالف في العبد إلا داود‏.‏ لنا‏:‏ أنه قاصر عن رتبة الإجماع، فلا ينهض للحد، وقوله - عليه السلام - ‏(‏من أشرك بالله فليس بمحصن‏)‏‏.‏ والرق من جرائر الكفر، والأصل‏:‏ بقاء عدم الاعتبار، وأما شرائط القاذف؛ فلأن العقوبة تعتمد التكليف، والقدرة على الوفاء بما وجب عليه‏.‏

نظائر‏:‏

قال صاحب الخصال‏:‏ عشرة لا حد على قاذفهم‏:‏ الصبي، والعبد، والأمة، والذمي، والمحدود في الزنا، والمرجوم في الزنا‏.‏ والمنبوذ، ومن ليس معه متاع الزنا، والولد يقذفه والده ‏(‏استبعد مالك حده‏)‏‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ المشهود عليه بالقذف‏.‏ إقامة بينة‏:‏ أربعة بأن المقذوف زنى فيسقط عنه الحد لانخرام الإحصان، وعدم الكذب عليه‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ يحد الذمي للمسلم ثمانين؛ لأنه من باب العلم فيقام عليه بخلاف الزنا‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ ليس للقاذف تحليف المقذوف أنه زنى‏:‏ وإن علم من نفسه أنه زنى، جاز له حده؛ لأن الستر مأمور به‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا شهد عليه رجل أنه قذفه يوم الخميس، وآخر أنه قذفه يوم الجمعة، حد كالطلاق والعتاق‏.‏

فرع‏:‏

لقذف الجماعة في مجلس واحد أو مجالس حد واحد، وإن قام به واحد سقط كل قذف قبله، ‏(‏وقاله ‏(‏ح‏)‏‏)‏، وقال الشافعي‏:‏ إن قذفهم بكلمات متفرقة، فعليه لكل واحد حد، ‏(‏وقاله أحمد‏)‏، أو بكلمة واحدة، فقولان‏:‏ عند ‏(‏ش‏)‏ وأحمد، وبناها الحنفية على أنه حق لله تعالى، فصح التداخل، وبناها الآخرون على أنها حق لآدمي، فصح التعدد، ويلزمه أن يكون - عندنا - قولان، بناء على أنه حق لله تعالى أم لا‏.‏ وقد حكاه العبدي في نظائره، واللخمي وغيره‏.‏ لنا‏:‏ أن هلال بن أمية العجلاني رمى امرأته بشريك بن سحماء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏حد فيظهرك وتلتعن‏)‏، فلم يقل‏:‏ حدان‏.‏ وجلد عمر - رضي الله تعالى عنه - الشهود على المغيرة بالزنا حدًا واحدًا لكل واحد، مع أن كل واحد قذف المغيرة، والمؤتى بها‏.‏ وجلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قذفة عائشة ثمانين ثمانين، منهم حسان ‏(‏رواه أبو داود‏)‏، مع أنهم قذفوا عائشة، وصفوان بن المعطل‏.‏ وقياسًا على الزنا؛ ولأنه لو قذف ألفا فمات قبل إقامة الحدود، وقد يسقط بالشبهة كما تسقط سائر الحدود فتتداخل مثلها‏.‏ احتجوا بأنه قذف جماعة، فلا تداخل، كما لو قذف زوجاته الأربع لاعن أربع لعانات‏.‏ ولأنه حق الآدمي، فلا يقاس على الحدود؛ ولأنها لا تسقط بالرجوع، فلا تتداخل كالإقرار بالمال‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه أيمان، والأيمان لا تتداخل بخلاف الحدود‏.‏

وعن الثاني‏:‏ بأنه لا يتكرر في الشخص، فلو غلب فيه حق الآدمي، لتكرر فيه كتكرر الإتلاف‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن الإقرار لا يتداخل في المتباينات، ولو قال له‏:‏ يا لائط، يا زاني، تداخل‏.‏

قاعدة‏:‏ مقابلة الجمع بالجمع في اللغة‏:‏ تارة تتوزع الأفراد على الأفراد، نحو‏:‏ الدنانير للورثة، وتارة يثبت أحد الجمعين لكل فرد من الجمع الآخر، نحو الثمانين جلدة للقذفة، وتارة يثبت الجمع، ولا يحكم على الأفراد، نحو‏:‏ الحدود للجنايات إذا قصد أن المجموع للمجموع‏.‏ وإذا اختلفت أحوال المقابلة بطل كونه حقيقة في أحدهما، لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز، وبطل تخيل من اعتقد أن قوله تعالى‏:‏ ‏(‏والذين يرمون المحصنات‏)‏ يقتضي أن قذف الجماعة له حد واحد؛ لأنه قابل الذين، وهو جمع بالمحصنات، وهو جمع، فيحصل أن الجميع إذا رمى الجميع يجب ثمانون فقط‏.‏ خالفنا ذلك في قذف الجمع للجمع‏.‏ والواحد يبقى على مقتضاة في قذف الواحد للجمع، ‏(‏قاله الطرطوشي وغيره‏)‏، فيمنع كون ذلك مقتضاه‏.‏

نظائر‏:‏ قال العبدي‏:‏ التسوية بين الواحد والجمع، والقليل والكثير في تسع مسائل‏:‏ من قذف رجلاً فعليه حد، أو جماعة فحد، وقيل‏:‏ يتعدد، وصاع في المصراة الواحدة والجمع، وقيل‏:‏ يتعدد، والحالف بنحر ولده عليه هدي، وكذلك الجمع، وقيل يتعدد الهدي، ومؤخر قضاء رمضان سنة، عليه كفارة واحدة، وكذلك السنون، والواطئ في رمضان مرة أو مرارًا سواء، والحلف إذا تكرر كالمرة الواحدة، كفارة واحدة، والمتطيب في الحج مرة، عليه الفدية، وكذلك المرار إذا اتحد السبب، والحالف بصدقة ماله مرة أو مرارًا، عليه الثلث، ويغسل الإناء من ولوغ الكلب، وكذلك الكلاب سبعًا‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إذا حد له، ثم قذفه، حد له‏.‏ والفرق‏:‏ أنه إذا قذفه مرارًا قبل الحد، أجزأه حد‏.‏ إنا بينا أن الحد السابق لم يف بكفه عن الجناية، بخلاف إذا لم يتقدم‏.‏ وإن ضرب أسواطًا، فقذف آخر، وقذف الأول ابتدئت ثمانون من حين القذف، ولا يعتد بما مضى‏.‏ قال اللخمي عن مالك‏:‏ إن لم يمض إلا أيسره أجزأه إتمامه لهما، أو بقي أيسره نحو ثلاثة، أكمل هذا واستؤنف الآخر، وقال أشهب‏:‏ العشرة قليل، وإن قذفه فحد له، ثم قذفه بغيره حد له أو به بأن يقول‏:‏ صدقت عليك، فاختلف‏:‏ قال محمد‏:‏ يحد له، وقيل‏:‏ لا شيء عليه إلا العقوبة، وقد كان أبو بكرة بعد الجلد متماديًا على قوله، وقوله في الكتاب‏:‏ إذا قذف وهو يضرب، يستأنف، وهو على قوله‏:‏ يحد للجماعة حدًا واحدًا، وعلى القول بالتعدد يتم الأول، ويستأنف الثاني‏.‏ وفي النوادر‏:‏ قال المغيرة‏:‏ إن قذف جماعة، فقاموا جميعًا، فحد واحد، أو مفترقين، حد لكل واحد، قال ابن القاسم‏:‏ إن قذفهم، ثم شرب خمرًا، فحد فيه أجزأه ما تقدم من قذف وشرب؛ لأن الشرب من حد القذف مستخرج‏.‏ وإن قال لجماعة‏:‏ أحدكم زان، أو يا ابن الزانية لم يحد؛ لأنه لا يعرف المراد، فإن قام به جميعهم، فقيل‏:‏ لا حد عليه لعدم التعيين، فالنكاية في العرض ضعيفة لعدم التعيين، فإن قام أحدهم، وادعي أنه أراده، لم يقبل إلا بالبيان، فإن عرف من أراده، لم يحده الإمام إلا بقيام المقذوف، ومن قذف من لا يعرف لا حد عليه‏.‏ وإن قال‏:‏ يا زوج الزانية، وتحته امرأتان، فعفت إحداهما، وقامت الأخرى، حلف ما أراد إلا الذي عفت، فإن نكل حد‏.‏ وفي المنتقى، عند أشهب ثلاثة أقسام‏:‏ إن ذهب اليسير تمادى وأجزأ لهما، أو النصف وما يقرب منه، استؤنف لهما، أو بقي اليسير لم يستأنف للثاني، وعند ابن القاسم‏:‏ قسمان‏:‏ إن مضى من الحد الأول شيء، استؤنف من حين القذف للثاني، ولا يحتسب بالماضي، وإن بقي اليسير تمم الأول واستؤنف الثاني‏.‏

فرع‏:‏ في المنتقى‏:‏ من قذف مجهولاً، لم يحد؛ لعدم النكاية، ‏(‏قاله محمد‏)‏‏.‏ /5

فرع‏:‏

قال‏:‏ من شروط وجوبه‏:‏ قيام الولي، ولو سمع الإمام رجلاً يقذف، لم يكن عليه تعريف المقذوف، فإن قام به، تعلق به حق الله، وإلا فلا‏.‏ وعلى هذا قوله - عليه السلام - ‏(‏واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ ليس الإرسال حرصًا على الاعتراف؛ لأمره - عليه السلام - بالتستر، بل أنها قذفت، فيكون تعريفه - عليه السلام - لا على سبيل الوجوب‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ مذهب ابن حبيب‏:‏ أن قيام الولي ليس شرطًا، ويحده وإن كان المقذوف غائبًا؛ لأنه حق الله‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ لا عفو في حد القذف، إذا بلغ الإمام أو صاحب الشرط أو الحرس، إلا أن يريد المقذوف سترًا، ويجوز العفو فيه، والشفاعة إذا بلغ الإمام، وإن صدر موجب التعزير من عفيف ذي مروءة، وهي طائرة منه، تجافى الإمام عنه، فإن عفا عن القاذف قبل بلوغ الإمام ولم يكتب بذلك كتابًا، فلا قيام له، وكذلك النكول، ويجوز العفو عن القصاص مطلقًا وإن عفا على أنه متى شاء قام، وكتب بذلك وأشهد له، فذلك له ولورثته‏.‏ وفي التنبيهات‏:‏ في العفو عن القاذف ثلاثة أقوال‏:‏ يجوز وإن بلغ الإمام، ويمتنع إن لم يبلغ الإمام، ويمتنع إذا بلغ الإمام، إلا أن يريد سترًا، وقيل‏:‏ إن أراد سترًا لا يختلف في جوازه، وعلى المنع مطلقًا يقوم به بعد العفو‏.‏ وقوله‏:‏ طائرة، أي‏:‏ كلمة انفلتت منه ليست بعادة، ويجافي الإمام بعده عن عقوبته‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب‏)‏ رواه ابن وهب‏.‏ قال محمد‏:‏ إنما يجوز العفو إذا قذفه في نفسه، أما أحد أبويه وقد مات، فلا عفو بعد بلوغ الإمام وإن أراد الستر، وقاله ابن القاسم وأشهب، ويجوز عفو الولد عن الأب عند الإمام، ‏(‏قاله مالك وأصحابه‏)‏ إن قذفه في نفسه، وكذلك حده لأبيه، بخلاف حده لأمه‏.‏ وإذا قال الشهود‏:‏ قذفك، وقال‏:‏ لم يقذفني، ردت الشهادة، إلا أن يكون القذف أمامهم، وادعى ذلك، ثم أكذبهم بعد أن شهدوا عند الإمام، أو قال‏:‏ ما قذفني، فإنه حد وجب، وإذا هم الإمام بضربه فأقر المقذوف بالزنا، وصدقه، وثبت على إقراره، حد للزنا ولم يحد الآخر، للقذف، وإن رجع عن إقراره، لم يحد‏.‏ وحد القاذف، قاله أصبغ‏.‏ وقال عبد الملك‏:‏ إن رجع عن إقراره بفور يدرأ عنه الحد وعن القاذف بإقراره، ما لم يتبين أنه أراد بإقراره إسقاط الحد‏.‏ قال مالك‏:‏ لا يجوز أخذ مال على إسقاط الحد، فإن فعل لم يسقط‏.‏ في النوادر‏:‏ ومعنى قول مالك‏:‏ أراد سترًا، أن يكون ضرب الحد قديمًا، فيخاف أن يظهر ذلك عليه الآن، فأما إن عمل شيئا لم يعمله أحد إلا نفسه، حرم عفوه‏.‏ قال أصبغ‏:‏ فإن قال‏:‏ أردت سترًا لم يقبل منه، ويكشف ذلك الإمام، فإن خاف أن يثبت عليه أجاز عفوه وإلا لم يجزه‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ معنى قول مالك أراد سترًا‏:‏ أنه مثله يفعل ذلك، جاز عفوه، ولم يكلف أن يقول‏:‏ أردت سترًا؛ لأن قول ذلك عار، وأما العفيف الفاضل، فلا يجوز عفوه‏.‏ وفي الموازية عن مالك‏:‏ للمقذوف أن يكتب كتابًا بقذفه يقوم به متى شاء، وكرهه مالك، وقال‏:‏ ما هو من عمل الناس‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ معنى أراد سترًا‏:‏ أنه إن لم يعف عنه، أثبت ذلك عليه ولم يفصل بين حده قبل ذلك ولا غيره، وقاله في المنتقى، ومعناه‏:‏ قبل بلوغ الإمام؛ لأن بعد بلوغه يتعين إيقاعه‏.‏

قاعدة‏:‏ الحقوق ثلاثة أقسام‏:‏ حق لله صرف كالإيمان، وللعبد صرف كالإيمان، حق مختلف فيه، هل يغلب فيه حق الله أو حق العبد كالقذف، فيفرق في الثالث، إن اتصل بالإمام، تعين حق الله؛ لاتصاله بنائبه في أرضه، وحق الله تعالى‏:‏ أمره ونهيه، وحقوق العبد مصالحه، وما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك لمستحقه، لكن المعنى في أنه غلب فيه حق العبد‏:‏ أن العبد متى أسقط حقه سقط، حق الله بإيصال ذلك الحق، ويبقى من حق الله تعالى إثم المخالفة في الغصب ونحوه‏.‏ فإن المغصوب منه إذا أسقط الطلب بالمغصوب، لم يأمر الله بعد ذلك بإيصاله، لكن يؤاخذ على جريمة الغصب في الدار الآخرة أو في الدنيا، إلا أن يعفو، أو يترجح كون القذف حقا للعبد بتوقفه على قيام طالبه، وكونه يورث‏.‏ وحقوق الله تعالى لا يدخلان فيه‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ لا يقوم بالحد إلا المقذوف، فإن أكذب المقذوف البينة، ردت الشهادة، وإن قالت البينة بعد وجوب الحد‏:‏ شهدنا بالزور، سقط الحد، وإن قذف ميتًا، فلإبنه، وولد ولده، ولجده لأبيه القيام، وإن كان ثم من هو أقرب منه؛ لأنه عيب يلزمهم‏.‏ وليس للعصبة والإخوة مع هؤلاء قيام إلا عند عدمهم‏.‏ وللجدات القيام بالحد، إلا أن يكون له ولد، فإن لم يكن للمقذوف وارث لم يقم به أجنبي؛ لعدم تعلق الضرر به‏.‏ وأما الغائب‏:‏ فلا يقوم ولد لغيره بقذفه؛ لأنه لم ينتقل الحق عنه، وإن مات وأوصى بالقيام، قام الوصي‏.‏ في التنبيهات قوله‏:‏ لا يقوم أحد للغائب، ظاهره، أنه لا يتعرض للقاذف، وقال عبد الملك‏:‏ يسجن حتى يقدم من له عفو أو قيام‏.‏ قال ابن يونس في الموازية‏:‏ ليس للإخوة والبنات والجدات قيام بقذف الميت إلا أن يوصي به، وقال أشهب‏:‏ لا يقوم إلا الأقرب فالأقرب، وكذلك العفو؛ لأنه ميراث الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ، ثم الجد، ثم الأم، وكذلك القرابات من النساء، الأقرب فالأقرب، ولا حق للزوجة ولا بنت البنت‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ويقام للغائب وإن طالت غيبته، وقيل‏:‏ لولده القيام في الغيبة البعيدة دون القريبة، ويكتب للمقذوف، وقال ابن القاسم‏:‏ لا يقوم للغائب إلا الولد في أبيه وأمه، قال‏:‏ ولو سمعه السلطان مع شاهدين، حده، وإذا رفعه من سمعه للإمام سمع شهادته، فإذا كمل النصاب حد القاذف‏.‏ في النوادر‏:‏ إذا قام المقذوف بعد طول الزمان، حلف‏:‏ ما سكت تركًا، وإنما يكون الحق للأولياء إذا مات المقذوف قبل طول الزمان، أما بعد طوله فلا؛ لأنه ليس موجودًا حتى يحلف، والطول ظاهر في الترك، وقال أشهب‏:‏ وإن طال قبل موته؛ لأنه لو عفا ثم قام، كان ذلك له‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ لا يحد القاذف حتى يبلغ بالاحتلام أو بسن لا يبلغه إلا محتلم دون الإنبات، ومن فيه علقة رق، فحده حد العبيد، ويؤاخذ المحارب إذا تاب بما قذفه حال حرابته وبحقوق الناس، فإن قذف حربي مسلمًا، ثم أسلم أو أٍسر، لم يحد؛ لأن القصاص موضوع عنه، وإن قدم بأمان فقذف مسلمًا، حد؛ لأنه له عقدًا كالذمي‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إذا ارتد المقذوف، أو قذف وهو مرتد، لم يحد ولو رجع إلى الإسلام، كالزنا قبل الحد وبعد القذف، فإن ارتد القاذف أو قذف وهو مرتد، حد، أقام على ردته أو أسلم؛ لأن الردة لا تأبى أخذ الحقوق، وتأبى أن تثبت لصاحبها حقوق؛ لكونها مستصدر الحياة‏.‏ والحقوق إنما هي الحياة، وكذلك لا شفعة له، وإن قذف ملاعنة التعنت بولد أو بغير ولد، حد؛ لأن ولد الملاعنة يتوارثون فأنهم أشقاء، ولو رجع الأب ثبت النسب، وإن قال لولدها‏:‏ لست لأبيك اختيارًا، لم يحد، أو مشاتمة، حد‏.‏ ويحد قاذف المجنون؛ لأن عرضه ممنوع، كماله ونفسه‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إن خاصم في القذف، ومات قبل إقامة البينة، قام الوارث به‏.‏

قاعدة‏:‏ الوارث ينتقل إليه المال بالإرث، فينتقل إليه كل ما يتعلق به من الخيار والشفعة والرد بالعيب ونحوه‏.‏ ولا يرث النفس والعقل، فلا تنقل إليه الإمامة والقضاء وما فوض إليه من خيار الغير، ولا اللعان، ولا نية الإيلاء، ولا نحو ذلك؛ لأنها أمور متعلقة بالنفس والعقل‏.‏ ومقتضى هذه القاعدة‏:‏ أن لا ينتقل القصاص والقذف، لكن ضررهما متعد للوارث، فانتقلا إليه لهذا السبب، فهذا ضابط ما ينتقل للوارث وما لا ينتقل، فليس كل حق مات عنه ينتقل‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ حد القذف والخمر على العبد، أربعون، ‏(‏نصف حد الحر‏)‏، وحده في الزنا، خمسون؛ لقوله تعالى ‏(‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏)‏ قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ إن أقيم عليه حد العبد، ثم علم أنه حر، حينئذ كمل حد الحر‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إذا قال المشهود عليه‏:‏ الشهود عبيد، صدق الشهود في الحرية؛ لأنها الأصل، وكذلك القاذف للمقذوف، عبد، فأن ادعى بينة قريبة أمهل، وإلا جلد‏.‏ وإن أتى بها بعد ذلك، زالت عنه جرحة الحد، ولا أرش له في الضرب‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ إذا ادعى عليه، وأقام شاهدًا أنه قذفه، أحلفه، فإن نكل حبس أبدا حتى يحلف‏.‏ اتفق مالك وأصحابه أنه يحبس أبدًا، ‏(‏قاله محمد‏)‏‏.‏ وفي النوادر‏:‏ في الموازية‏:‏ إن طال سجنه، خلي‏.‏ قال أصبغ‏:‏ ويؤدب إذا خلي إن كان يعرف بأذى الناس، وإلا فأدبه حبسه‏.‏ ولا يؤدب مستوجب الأدب، إلا بعد الإياس من يمينه‏.‏ وتوقف ابن القاسم في التأديب‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ إن أقام القاذف شاهدين أن الوالي ضربه في الحد في الزنا، لم يسقط الحد عنه، وحد الشاهدان معه، ولا تنفعه إلا أربعة على رؤية الزنا‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إن قال للمنبوذ‏:‏ يا ولد زنا، أو يا ابن الزانية، لا يحد؛ لأنه ليس له نسب ينفى عنه، ولا أمه معلومة، فيحد لها، بخلاف يا زان‏.‏

فرع‏:‏

قال في الموازية‏:‏ إن قذف الغريب، فعليه إقامة البينة على نسبه، إلا أن يطول الزمان، وينتشر عند الناس، ويعرف به، فيحد قاذفه‏.‏ قال مالك‏:‏ والناس على أنسابهم؛ لأنهم حازوها، وعرفوا بها كالأملاك، ومن ادعى غير ذلك، كلف البينة، وإلا حد‏.‏ وفي العتبية‏:‏ إن قال‏:‏ يا ابن الزانية للغريب الذي لا تعرف أمه، وهو مسلم، حد قاذفه‏.‏ قال‏:‏ وقد يقدم الرجل من خراسان، ويقيم السنين، فيحد قاذفه، ولا يكلف بينة أن أمة حرة مسلمة‏.‏

فرع‏:‏

قال ابن القاسم‏:‏ المعتق في الوصية المأمونة يقذف قبل تنفيذه من الثلث، لا حد له، ثم رجع إلى الحد إن أمن المال، ويرث ويورث‏.‏ والأمة الحامل من سيدها، يموت سيدها قبل الوضع، ولم تكن ولدت منه قبل ذلك، لم يختلف قول مالك أنه يحد قاذفها، ولم يراع أن الحمل ينقص‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا أخذ في الزنا أو الفرية أو الخمر، فقال‏:‏ أنا مملوك، إن كان محصنًا، رجم في الزنا، وجعل عليه حد المملوك في الفرية والخمر؛ لأنه لا يتهم في رق نفسه، وقال محمد‏:‏ إن أقر بالرق لرجل حاضر أو قريب الغيبة، سئل من أقر له، فإن ادعاه، لم يحد في الجلد، إلا في حد العبد‏.‏ وأما الزنا، والقطع، والقتل، فلا يسقط إلا بالنية؛ لأن الأصل الحرية‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن قال لعبده أو أجنبي‏:‏ قل لفلان‏:‏ إن فلانا يقول لك‏:‏ يا ابن الفاعلة، ففعل، حد الآمر دون المأمور‏.‏ وإن قال له‏:‏ اقذف فلانا - يعني العبد - يحد مع السيد، ويحد الحر دون الآمر؛ لأنه غير منحكم له‏.‏ وفي الواضحة‏:‏ يحد السيد والعبد، أمره بالقذف أو بقوله له‏:‏ يا ابن الفاعلة‏.‏ وإن قال لأجنبي‏:‏ قل له‏:‏ يا ابن الفاعلة، حدًا معًا‏.‏ قال ابن حبيب، وهو أحسن ما فيه، وفيه خلاف‏.‏ وفي الموازية‏:‏ إن حمل لرجل كتابًا فيه‏:‏ يا ابن الفاعلة، فدفعه إليه، حد إن علم ما فيه؛ لأنه تعريض‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ كان مالك إذا سئل عن حد، أسرع الجواب، وساس به، وأظهر السرور بإقامة الحد‏.‏ وقيل‏:‏ لحد يقام بأرض، خير لها من مطر أربعين صباحًا‏.‏

فرع‏:‏

في المقدمات‏:‏ في ثبوت القذف بشهادة النساء، والشاهد مع اليمين، خلاف جار على الخلاف في شهادتهن في جراح العمد، وفي القصاص باليمين مع الشاهد، والاتفاق في اللفظ دون المواطن، جازت الشهادة اتفاقًا، واختلف اللفظ والمعنى، واتفق ما يوجب الحكم، كشهادة أحدهما بالقذف، والآخر بنفي النسب، ردت على الشهود، أو اختلاف الجميع، لم يأتوا اتفاقًا‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال مالك وأكثر أصحابه و‏(‏ح‏)‏‏:‏ إن شهادة القاذف جائزة حتى يحد؛ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا‏)‏، فرتبت عدم القبول على عدم الإتيان بالشهادة، وإذا لم يحد فهل تتأتي منه إقامة الشهادة، وقال ‏(‏ش‏)‏ وعبد الملك‏:‏ لا يقبل؛ لأنه قبل الحد شر منه بعده؛ لأن الحد كفارة له، وإذا تاب قبلت عند مالك و‏(‏ش‏)‏ ومنعها ‏(‏ح‏)‏، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا‏)‏، والاستثناء في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا الذين تابوا‏)‏، يعود على التفسيق دون قبول الشهادة، وهو باطل؛ لأن سبب الرد التفسيق، إذا زال قبلت‏.‏

الثالث في التعزير

وفي الجواهر‏:‏ والنظر في موجبه وجنسه ومستوفيه، أما موجبه‏:‏ فهو معصية الله تعالى في حقه أو حق آدمي، وأما قدره، فلا حد له، فلا يقدر أقله ولا أكثره، بل بحسب اجتهاد الإمام على قدر الجناية، ويلزم الاقتصار على دون الحدود، ولا له النهاية إلى حد القتل، وأما جنسه‏:‏ فلا يختص بسوط، أو حد، أو حبس، أو غيره، بل اجتهاد الإمام، وكان الخلفاء المتقدمون يعاملون بقدر الجاني والجناية، فمنهم من يضرب، ومنهم من يحبس، ومنهم من يقام على قدميه في تلك المحافل، ومنهم من تنزع عمامته، ومنهم من يحل إزاره‏.‏ ويعتبر في ذلك قول القائل، والمقول له، والمقول، فإن كان القائل ممن لا قدر له، أو عرف بالأذى، والمقول له من أهل، فعقوبته أشد، أو من أهل الخمر، فعقوبته أخف، إلا أن تخف الجناية جدًا، فلا يعاقب ويزجر بالقول إن كان القائل ممن له قدر، معروفًا بالخير‏.‏ والمقول له على غير ذلك، زجر بالقول‏.‏ قال مالك‏:‏ وقد يتجافى السلطان عن الفلتة من ذوي المروءة‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إن قال‏:‏ يا سارق، نكل، أو قال‏:‏ سرق متاعي، والمقول فيه يتهم، فلا شيء عليه، والأنكل، وإن ناداه، يا شارب الخمر، ونحوه، نكل، ويا برون، أو يا حمار، أو بما يؤذيه، نكل‏.‏ ويجوز العفو والشفاعة في النكال وإن بلغ الإمام؛ لأنه حق لآدمي صرف‏.‏ قال مالك‏:‏ إذا انتهى للإمام والجاني من أهل العفاف والمروءة، ووقع ذلك منه فلتة، تجافى الإمام عنه، أو من أهل الأذية، فلا يقله، ولينكله‏.‏ قال الأستاذ أبو بكر‏:‏ وظاهر هذه الإطلاقات يقتضي أن التعزير واجب إذا قام به صاحبه، وإن لم يطالب لم يعزر‏.‏ ولم يفصل أصحابنا بين حق الآدمي وغيره، بل أطلقوا عدم الوجوب عند عدم القيام، وينبغي التفصيل‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ والمعتبر في الدفع‏:‏ القرآن، والعلم، والآداب الإسلامية، وفي الزناة‏:‏ الجهل، ‏(‏قاله الأستاذ أبو بكر‏)‏‏.‏

وأما المستوفي للتعزير‏:‏ فهو الإمام، والأب، والسيد، ويؤدب الصغير دون الكبير، ويؤدبه معلمه، وصاحبه، ويعزر السيد في حقه وحق الله تعالى، والزوج في النشوز وما يشبهه مما يتعلق بمنع حقه؛ لأن التعزير لو جعل لعامة الناس؛ لأدى لتواثب السفهاء للأذية، وكثرة الهرج والفتن، والتعزير جائز بشرط سلامة العاقبة، فإن سرى ضمنت عاقلته بخلاف الحد؛ لأن التعزير باجتهاد، والحد مقدر لا مدخل له فيه، فلو لم تترك المرأة النشوز إلا بضرب مخوف، لم يجز تعزيرها أصلاً‏.‏

تنبيه‏:‏ قال أمام الحرمين‏:‏ متى كان الجاني ينزجر بالكلمة أو بالضربة الواحدة، لم تجز الزيادة؛ لأن الأذية مفسدة يقتصر منها على ما يدرأ المفاسد، وإن كان لا ينزجر بالعقوبة اللائقة بتلك الجناية، بل بالمخوفة، حرم تأديبه مطلقًا، أما اللائق به فإنه لا يفيد، فهو مفسدة بغير فائدة، وأما الزيادة المهلكة‏:‏ فإن سببها لم يوجد، والصغار والكبار في تلك سواء‏.‏

فرع‏:‏

في الموازية‏:‏ قال محمد‏:‏ إذا بلغ التعزير قدر الحد، ضرب عرياناً‏.‏

تنبيه‏:‏ قال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يجاوز به أقل الحدود وهو أربعون حد العبد، بل ينقص منه سوط، والتعزير واجب لا يجوز للإمام تركه، إلا إذا غلب على ظنه أن غير الضرب مصلحة من الملامة والكلام‏.‏ وعند ‏(‏ش‏)‏ قولان في المجاوزة به، وهو عنده غير واجب على الإمام، إن شاء أقامه أو تركه‏.‏ لنا في المسألة قضاء الصحابة - رضي الله عنهم -‏:‏ زور معن بن زائدة كتابًا على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ونقش خاتمه مثل نقش خاتمه، فجلده مائة، فشفع فيه فقال‏:‏ أذكرني الطعن، وكنت ناسيًا، فجلده مائة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى، وكان رجل يأتي الناس في أسواقهم ومجالسهم، فيقول‏:‏ ‏(‏والذاريات ذروًا‏)‏، ويقول‏:‏ ‏(‏والنازعات غرقًا‏)‏ ما الذاريات‏؟‏ ما النازعات‏؟‏ ما الفارقات‏؟‏ ما الحاملات‏؟‏ ما الذاريات‏؟‏ وكان يتهم بالحرورية، فكتب أبو موسى إلى عمر - رضي الله عنهما - فيه فأمر بإقدامه عليه، فقال له عمر‏:‏ عم تسأل‏؟‏ تسأل عن الذاريات والنازعات‏؟‏ فضربه عمر - رضي الله عنه - بجريد النخل حتى أدمى جسده كله، ثم حبسه حتى كاد يبرأ، فضربه، وسجنه، فعل ذلك به مرارًا، فقال يا أمير المؤمنين‏:‏ إن كنت تريد قتلي، فأوجز، وإن كنت تريد الدواء، فقد بلغ الدواء مني، فأطلقه وأمره أن لا يجالس أحدًا، إلى أن كتب إليه أبو موسى‏:‏ إنه قد حسن حاله، فأمر بمجالسته، ولم ينكره أحد من الصحابة فكان إجماعًا‏.‏ وقتل رجل عبدًا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فجلد مائة جلدة، وقال‏:‏ لا تقبلوا له شهادة؛ ولأن الله تعالى جعل الحدود مختلفة بحسب الجنايات، فالزنا أعظم جناية وعقوبة من القذف، والسرقة أعظم منهما، والحرابة أعظم من الكل، فوجب أن تختلف التعازير‏.‏ وتكون على قدر الجنايات في الزجر فإذا زادت على موجب الحد زاد التعزير، احتجوا بما في الصحيحين‏:‏ قال - عليه السلام -‏:‏ ‏(‏لا يجلد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله‏)‏، واحتج ‏(‏ش‏)‏ بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعزر الأنصاري لما قال له‏:‏ أن كان ابن عمتك - يعني ابن الزبير - الحديث ولأنه غير مقدر، فلا يجب، كضرب الأب، والمعلم، والزوج‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه خلاف مذهبكم؛ لأنكم تزيدون على العشر، أو لأنه محمول على اتباع السلف، كما قال الحسن‏:‏ إنكم لتأتون أمورًا هي في أعينكم أدق من الشعيرة إن كنا لنعدها من الموبقات، فكان يكفهم قليل التعزير، ثم تتابع الناس في المعاصي حتى زوروا خاتمًا على خاتم عمر، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز، تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور‏.‏ ولم يرد نسخ حكم، بل المجتهد فيه يستقل فيه بالاجتهاد‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أنه حقه - عليه السلام - فله تركه، أو لأن تلك الكلمات كانت تصدر، ولم يقصد بها الاهتضام، من جفاة الأعراب‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أنه ينتقض برياضة الدابة إذا استؤجر عليها، وقد يجب غير المقدر كنفقات الزوجات والأقارب، ونصيب الإنسان في بيت المال غير المقدر، وهو يجب‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ قال مالك‏:‏ إن شتمه جده، أوعمه، أو خاله، فلا شيء عليه إن كان تأديبًا ولم ير الأخ مثلهم‏.‏

فائدة‏:‏ التعزير‏.‏ قيل‏:‏ لفظ مشترك بين الإهانة والإكرام، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه‏)‏، وقيل‏:‏ بل معناه‏:‏ المنع، فتعزير الجناة‏:‏ منعهم من العود إلى الجنايات، وتعزير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ منعه من المكاره‏.‏

الجناية الخامسة‏:‏ الحرابة والنظر في صفة المحاربين، وفي أحاكمهم

النظر الأول‏:‏ في صفتهم

وفي الجواهر‏:‏ المشتهر بالسلاح، لقصد السلب محارب، كان في مصر أو قفر، له شوكة أم لا، ذكرا أو أنثى‏.‏ ولا تتعين آلة مخصوصة، حبل، أو حجر، أو خنق باليد، أو بالفم، وغير ذلك، وهو محارب وإن لم يقتل، وكل من قطع الطريق وأخاف السبيل، فهو محارب، أو حمل السلاح بغيرعداوة ولا فائدة وكذلك قتل الغيلة، بأن يخدع رجلاً، أو مشى حتى يدخله موضعًا، فيأخذ ما معه، وإن دخل دارًا بالليل، فأخذ مالا مكابرة، ومع الاستغاثة، فهو محارب‏.‏ والخناق وساقي السم لأخذ المال محارب‏.‏ وكل من قتل أحدًا على ما معه، فهو محارب، فعل ذلك بحر أو عبد، مسلم أو ذمي‏.‏ وفي الكتاب‏:‏ إذا قطع أهل الذمة الطريق إلى مدينتهم التي خرجوا منها، فهم محاربون، وإن خرجوا تجارًا إلى أرض الحرب، فقطع بعضهم الطريق على بعض ببلد الحرب، أو قطعوها على أهل ذمة، دخلوا إلى أرض الحرب بأمان، فهم محاربون‏.‏ ومن دخل عليك دارك ليأخذ مالك، فهو محارب‏.‏

تمهيد في التنبيهات‏:‏ أخذ المال حرامًا عشرة أضرب‏:‏ حرابة إن أخذه بمكابرة، ومدافعة، وغيلة، أخذه بعد قتل صاحبه بحيلة مهلكة؛ ليأخذ ماله من إلقائه في مهواة أو نحوه، وغصب، وهو أخذ ذوي القدرة والسلطان ممن لا قدرة له على دفعه وقهره، وهو نحو الغصب، وخيانة‏:‏ أخذه من الودائع ونحوها، وسرقة‏:‏ أخذه من غير أمانة على الإخفاء من حرزه، واختلاسًا ‏(‏وهو أخذ السارق وأهله يعلمون‏)‏ وخديعة‏:‏ بأن يأخذه باختيارك، وإيهام وتعد، كالمستأجر يتجاوز المسافة والمقدار المستأجر عليه، وجحد في الديون ونحوها‏.‏ واسم الغصب يطلق على ذلك كله في اللغة، ولكل واحد منها حكم في الشرع على حياله‏.‏ وفي الموازية‏:‏ إن سقى السكران إنما يكون محاربة إذا كان ما سقاه يموت منه‏.‏ قال ابن يونس في العتبية‏:‏ إذا لقيه عند العتمة في المسجد أو خلوة، فنشر ثوبه ونزعه منه، لا قطع عليه إلا أن يكون محاربًا؛ لأنه مختلس، ولا قطع على مختلس‏.‏ قال اللخمي‏:‏ قال أصبغ‏:‏ إذا قعد اللصوص بقوم فعلم بهم الإمام، فأخذهم قبل أن يعلم بهم من قعدوا له، ولم يتقدم منهم تلصص، فليسوا محاربين، فإن علموا بهم، فامتنعوا من تلك الطريق؛ خوفًا منهم، فهم حينئذ قطاع الطريق، يجري فيهم حكم المحاربين، وإن أخذوا المال بالقوة بغير سلاح، ولا يخشى منهم قتال، أو منعوهم فهم غصاب غير محاربين، إلا أن يكون تقدم منهم خوف، وإن أخذوا بالقهر، ثم قتلوا؛ خوف أن يطلبوا، ليسوا بمحاربين، بل مغتالون، وإن سأله طعامًا فأبى، فكتفه ونزع منه الطعام وثوبه‏.‏ قال مالك‏:‏ محارب، وهو ممن يضرب وينفى‏.‏ والمحارب في المدينة محارب عند ابن القاسم؛ لصدق الاسم دون عبد الملك، فإنها إنما يكون فيها الغصب، وكذلك القرية إلا أن يكونوا جماعة يريدون القرية كلها عنادًا وإعلانًا، فهم محاربون‏.‏ ولو علم بالسارق بعد أخذ المال سرًا، فقاتل حتى نجا به، فهو سارق، ولا قتاله ليدفع عن نفسه، وإن علم به قبل أخذه فقاتل حتى أخذه فهو محارب عند مالك دون عبد الملك‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ من سماع ابن القاسم‏:‏ إن قطع الطريق لا لطلب مال، ولا عداوة، ولا نابده، ولا بدين، قال‏:‏ أمنع هؤلاء يمشون إلى مكة أو الشام، فهو محارب؛ لأنه قطع الطريق وأخاف السبيل‏.‏

النظر الثاني‏:‏ في أحكامهم

قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏)‏، فجعل تعالى الفساد في الأرض، كالقتل في وجوب القتل، وبين الفساد فقال‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ‏)‏، فمحاربة الله ورسوله‏:‏ إخافة السبيل، وهو السعي في الأرض فسادًا‏.‏ فكررت الحرابة بلفظين تأكيدًا‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ قال مالك‏:‏ جهادهم جهاد، ونناشد المحارب الله تعالى ثلاث مرات، فإن عاجله، قاتله، وقال عبد الملك‏:‏ لا يدعه وليبادر إلى القتال‏.‏ قال مالك‏:‏ يدعوه إلى التقوى، فإن أبى قاتله، وإن يطلب مثل الطعام وما خف، فليعطوه ولا يقاتلوه؛ لأنه أخف مفسدة‏.‏ قال سحنون‏:‏ أرى أن لا يعطوا شيئا، وإن قل، ولا يدعوا، وليظهر لهم الصبر والجلد والقتال بالسيف، فهو أقطع لطمعهم‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ من حارب من الذمة أو المسلمين، وأخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالاً، ولم يقتلوا، خير الإمام بين القتل والقطع، ورب محارب لم يقتل، أعظم فسادًا في حرابه ممن قتل، فإذا نصب، وعلا أمره، وأخاف، وحارب ولم يقتل، وأخذ المال أو لم يأخذ، خير في قتله، أو قطع يده ورجله، ولا يجتمع مع القتل قطع ولا ضرب، ولا يضرب إذا قطعت يده ورجله، ولا يستوي المحاربون، منهم من يخرج بعصا، فيؤخذ على تلك الحال بحضرة الخروج، ولم يخف السبيل، ولا أخذ مالا فيكفي الضرب والنفي والسجن في الموضع الذي نفي إليه‏.‏ ولا يجوز العفو عنه؛ لأنه حق الله تعالى‏.‏ ونفى عمر بن عبد العزيز محاربًا من مصر إلى شفت، وينفى من المدينة إلى فدك وخيبر، ويسجن هناك حتى تعرف توبته، فإن قتل، وأخذ المال، وأخاف السبيل، قتل، ولا تقطع يده ورجله‏.‏ والصلب مع القتل فيصلب حيًا، وثم يطعن بالحربة‏.‏ والعبد مثل الحر، غير أنه لا ينفى لحق سيده في خدمته‏.‏ وفي المقدمات‏:‏ معنى قول مالك في التخيير‏:‏ إنه يفعل ما هو أقرب للصواب، فذو الرأي يقتله؛ لأن القطع لا يدفع مضرته، وذو القوة فقط يقطعه من الخلاف؛ لأن ذلك ينفي ضرره، وإن لم يكن على هذه الوجوه وأخذ عند خروجه، فالضرب والنفي، ليس معناه أنه يتخير بهواه‏.‏ ومتى قتل فلا بد من قتله‏.‏ وينحصر التخيير في قتله وصلبه وقطعه‏.‏ وقوله في الكتاب‏:‏ إن نصب نصبا شديدًا، أو علا أمره، وطال زمانه، فإنه يقتل، لا ينبغي أن يؤخذ إلا بالقتل‏.‏ وخالفنا الأئمة، فقالوا‏:‏ الآية للترتيب، فلا يقتله إذا لم يقتل، ولا يقطعه إذا لم يأخذ المال، فإن قتل وأخذ المال، خيره ‏(‏ح‏)‏ بين القتل فقط، أو مع القطع، ‏(‏ولا يصلب، أو يجمع بين القتل والصلب‏.‏ وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يتعين القتل والصلب؛ لأنه يأتي على القطع‏)‏، وإن لم يقتل ولا أخذ المال، تعين النفي‏.‏ ويقدرون الشرط مكررًا في الآية، معناها عندهم‏:‏ أن يقتلوا إن قتلوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال، أو ينفوا إن لم يفعلوا شيئا من ذلك، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ نفيه ‏(‏حبسه ببلده حتى تظهر توبته‏)‏، وهو مروي عن مالك، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ نفيه أن يطلبه الإمام أبدًا، وهو يهرب من موضع إلى موضع‏.‏ لنا‏:‏ أن الأصل‏:‏ عدم الإضمار وإرادة الحقيقة، وهي التخيير الذي هو مسمى‏.‏ واحتجوا بما في الصحيح‏:‏ قال - عليه السلام -‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث‏:‏ كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس‏)‏، ولم توجد في المحارب، فلا يقتل؛ ولأنه سبب واحد، فلا تتعلق به عقوبتان، كالقتل والسرقة؛ ولأن الله تعالى شرط في الآية محاربة الله ورسوله مع الحرابة، ولم يوجد ذلك في مسألتنا؛ ولأن عادة الله تعالى في التخيير‏:‏ البداية بالأخف، كما في كفارة اليمين، وفي الترتيب بالأشد، نحو كفارة الظهار‏.‏ وقد بدأ هاهنا بالأشد، فتكون للترتيب؛ ولأن الأصل‏:‏ أن عظم العقوبة يتبع عظم الجناية، فلا يترتب القتل إلا حيث القتل‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه عام والآية خاصة فيقدم عليه‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أنا لم نعلق بالسبب الواحد عقوبتين، بل صفة كل محارب إلى عقوبة واحدة، والحرابة من حيث هي حرابة لها عقوبة واحدة، وهي الضرب والنفي كالزنا‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن محاربة الله تعالى محال، فيتعين صرفها لمصعيته بالفساد في الأرض، ويكون المعنى واحدًا، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏)‏، والحزن، البث، وعبس، وبسر، ومعناها واحد، وهو في اللغة‏:‏ يدل على اهتمام المتكلم به‏.‏

وعن الرابع‏:‏ أن المستند في الترتيب‏:‏ أن يذكر بصيغة إن، والتخيير بصيغة أو؛ لكونه أشد وأضعف‏.‏ وقد وجدت أو هاهنا، فتكون للتخيير، وإنما بدأ هاهنا بالأشد؛ إشارة إلى عظم رتبة الحرابة في الجنايات‏.‏

قاعدة‏:‏ للتخيير في الشريعة أربعة معان‏:‏ المباح المطلق، كالتخيير بين أكل الطيبات، ولبس الثياب، والواجب المطلق، كتصرفات الولاة، فمتى قلنا‏:‏ الإمام مخير في صرف بيت المال، وفي أسارى العدو، أو التعزير، أو المحاربين، فمعناه‏:‏ أن ما يتعين سببه برجحان مصلحته، وجب عليه، وحرم عليه غيره، فهو أبدًا ينتقل من واجب إلى واجب‏.‏ ويشبه أن يخرج على هذه القاعدة تخيير الساعي بين أربع حقاق وخمس بنات لبون، ولا يتوقف أخذه لأحدهما على رجحان مصلحته؛ لوجوب السبب الواحد المقتضي لهما، وهو الملك الحاضر من الإبل، ويحتمل أنه يجب عليه أن لا يأخذ إلا الأرجح للفقراء، إلا أن بذل النصيحة للأمة واجب على الأئمة ونوابهم، ولا يأخذ شيئا دون السن الواجب مع دراهم أو عرض، إلا أن يكون أرجح للفقراء؛ لأن السبب إنما اقتضى السن المتروكة، والثالث‏:‏ التخيير بين واجب من وجه، ومباح من وجه، نحو كفارة اليمين، خير بينها، وكل واحد واجب من حيث إنه أحد الخصال، ومباح من ‏(‏وجه، نحو كفارة اليمين من‏)‏ جهة خصوصه‏.‏ وقد يكون خصوص العتق أو الطعام مندوبًا، فيكون التخيير بين الواجب والمندوب، لا على معنى ترك الواجب، بل المخير بينها واجبة من جهة عمومها، لا من جهة خصوصها، بخلاف تخيير الولاة يقع أبدًا في واجب بخصوصه وعمومه، فيما يعينه سببه وفي القسم، أو المباح بخصوصه وعمومه الدائر بين الواجب والمكروه، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام، والقصر واجب، والإتمام مكروه على المشهور‏.‏ والتخيير بين الصوم والفطر، تخيير بين شهر الأداء وشهر القضاء، فالواجب أحد الشهرين، فهو من باب خصال الكفارة‏.‏ وكذلك الجمعة في حق العبد، والمسافر، والمرأة، وإن قلنا‏:‏ القصر ليس مستحبًا، ‏(‏خير بين الواجب الذي هو القصر، والمباح الذي هو الإتمام‏)‏‏.‏ والفرق بين خصال الكفارة، والقصر، والإتمام‏:‏ أن القصر الذي هو الركعتان لا بد منهما إجماعًا، وإنما خير بين أن يزيد عليهما أم لا، فالخصوص واجب في الركعتين، وليس واجبًا في خصلة من خصال الكفارة، وهذه قاعدة في التخيير أبدًا بين سببين‏:‏ أحدهما جزء الآخر، كتخيير الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل بين ثلثه ونصفه وثلثيه، فالثلث لا بد منه، وما زاد مندوب، والتخيير واقع فيه بين واجب ومندوب‏.‏ وبهذه القواعد والتنبيهات يظهر بطلان من يقول‏:‏ التخيير لا يقع إلا بين متساويين، وأن التخيير يقتضي التساوي‏.‏

فرع‏:‏

قال ابن يونس‏:‏ النفي عند مالك يوم وليلة؛ لنهيه - عليه السلام - أن تسافر المرأة يومًا وليلة، إلا مع ذي محرم منها‏.‏ قاله بعضهم، ولا نفي على النساء لما تقدم في باب الزنا؛ ويكتب للوالي بحبسه بذلك الموضع، حتى يتوب من غير تحديد، بخلاف الزنا، ونفقتهما في حملهما من أموالهما‏.‏ وقاتل النفس يحبس في موضعه‏.‏ في المقدمات‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ يصلب حيًا، ويقتل في الخشبة، فيسيل دمه مربوطًا عليها، من قولهم‏:‏ تمر مصلب إذ كان شعره سائلاً‏.‏ وقال أشهب‏:‏ يقتل قبل الصلب، ثم يصلب، فالتخيير واقع في صفة قتله، لا بين قتله وصلبه، فعلى رأي أشهب‏:‏ يصلى عليه قبل الصلب‏.‏ ويختلف في الصلاة عليه على مذهب ابن القاسم، فقال عبد الملك‏:‏ ليترك على الخشبة، حتى تأكله الكلاب، ولا يمكن من الصلاة عليه، وعنه‏:‏ يصلى خلف الخشبة، ويصلى عليه مصلوبًا، وقال سحنون‏:‏ ينزل من عليها ويصلى عليه؛ لأنها سنة الصلاة وفي إعادته لها؛ ليرتدع المفسدون ‏(‏قولان‏)‏‏.‏ وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يترك ثلاثة أيام، وينزل، جمعًا بين المصالح، وقد توفي معنى النص، والزيادة مثلة منهي عنها، والقطع في اليد اليمنى والرجل اليسرى، فإن عاد، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، ‏(‏فإن كان أشل اليمنى والرجل اليسرى، أو مقطوعهما، قال ابن القاسم‏:‏ تقطع يده اليسرى، ورجله اليمنى‏)‏ حتى يكون القطع من خلاف، وقال أشهب‏:‏ تقطع يده اليسرى، ورجله اليسرى؛ لأنها المستحقة للحرابة‏.‏ وفي النفي ثلاثة أقوال، فعن مالك‏:‏ السجن، وقاله سفيان، وقال مالك وابن القاسم‏:‏ ينفى إلى بلد أقله مسافة القصر، فيسجن حتى تظهر توبته، وقال عبد الملك‏:‏ يطلبهم الإمام لإقامة الحد، فهروبهم منه هو النفي، وإن قدر عليه لا ينفى‏.‏ في النوادر‏:‏ متى قتل، قتل بالسيف من غير صلب‏.‏ قال اللخمي‏:‏ يسقط عن المرأة النفي والصلب، وعلى قول مالك‏:‏ إن النفي‏:‏ الحبس بالبلد نفي، وعلى المشهور‏:‏ لا تنفى، قال‏:‏ وأرى إن وجدت وليا أو جماعة مرضيين، وقالت‏:‏ أخرج إلى بلد آخر، فأسجن فيه، أن لها ذلك؛ لأنه أهون عليها من القطع والقتل‏.‏ وحد العبد ثلاثة‏:‏ القطع من خلاف، والقتل بانفراده، ‏(‏والصلب والقتل‏)‏، ويختلف فيه نفيه، كما في المرأة‏.‏ قال‏:‏ وأرى إن قال سيده‏:‏ أرضى بنفيه، ولا يقطع، أن يسوى بالحر‏.‏ والحد أربعة‏:‏ القطع، والقتل بانفراده، أو القتل والصلب، أو النفي‏.‏ وهو خلاف ما تقدم‏.‏ في المقدمات‏:‏ قال‏:‏ وأما الصبي لم يحتلم ولم ينبت، فيعاقب ولا يحد، فإن أنبت الإنبات البين، فخلاف في حده، والمجنون يعاقب للاستصلاح، كما تؤدب البهيمة للرياضة، وإن خف جنونه، حد، وإن حارب وقت إفاقته، ثم جن، أخر حتى يفيق، كالسكران لسكبه العقوبة‏.‏ واختلف قول مالك في العقوبات الأربع، هل هي على التخيير في المحارب الواحد‏؟‏ أو كل محارب تتعين له عقوبة، ويجتهد الإمام في ذلك إذا عظم فساده، وأخذ المال‏؟‏ وقال أشهب‏:‏ إن أخذ بالحضرة، ولم يأخذ مالاً، يخير فيه بين القتل والقطع والنفي، وكذلك إذا عظم أمره، وأخذ المال، فإن قتل تعين القتل؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏النفس بالنفس‏)‏، وخير أبو مصعب فيه، وإن قتل لظاهر الآية‏.‏ ويقتل المحارب بالسيف أو الرمح بغير تعذيب، ولا يرمى بشيء من عال، ولا حجارة، وإن رأى صلبه، صلبه قائمًا لا منكوسًا، وتطلق يدا، وإن لم تطلق فلا بأس‏.‏ قال‏:‏ وظاهر القرآن‏:‏ أن الصلب قائم بنفسه، وروى عن مالك ذلك، والمذهب أنه مضاف للقتل، وليس يصلب ولا يقتل، فلو حبسه الإمام ليصلبه فمات، لم يصلبه، ولو قتله أحد في الحبس، فله صلبه؛ لأنه بقية حده، وقال سحنون‏:‏ إذا صلب، وقتل، أنزل من ساعته، وصلي عليه ودفن، وإن رأى الإمام إعادته بعد الصلاة للخشبة لمزيد فساده أعاده، وإن كان أقطع الرجل اليسرى، قطع اليد اليمنى والرجل اليمنى، قال محمد‏:‏ وإن لم يكن له إلا يد أو رجل، أو يدان، قطعت اليمنى وحدها‏.‏ وعلى هذا إن لم يكن له إلا رجلان قطعت اليسرى وحدها‏.‏ والضرب مع النفي استحسان؛ لأنه زيادة على النص، وليس له حد، بل بحسب الحال، ولا تقبل توبته في السجن بمجرد الظاهر؛ لأنه كالمكره بالسجن، بل تعتمد على القرائن، فإن علمت توبته قبل طول السجن لم يخرج؛ لأن طول السجن حد‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ والنفي - عندنا - إلى أسوان، قال‏:‏ ويضيق عليه في السجن، فلا يدخل إليه إلا وقت طعامه‏.‏ قال‏:‏ وأرى إن عوقب بالنفي، ثم عاد، حد بالقطع أو القتل؛ لأن النفي لم يزجره، وإن عاد بعد القطع إلى الأمر الخفيف، ورجي في نفيه صلاحه، نفذ ذلك، أو متماديًا على حرابته، فالقطع أو القتل، وإن قطع في الثالثة، قتله في الثالثة أو أبقاه إن ضعف شره‏.‏ ومتى رجي صلاحه بغير القتل، لم يقتل‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ قليل المال دون ربع دينار مثل كثيره في قطع الطريق على مسلم أو ذمي‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إن تاب قبل القدرة عليه، سقط الحد دون حق الآدمي في نفس، أو جرح، أو مال‏.‏ وللأولياء العفو أو القتل فيمن قتل، وكذلك الجراح، فإن كانوا جماعة ‏(‏قتلوا رجلاً، ولي أحدهم قتله، وأعانه الباقون‏)‏، قتلوا كلهم، وإن تابوا قبل أن يؤخذوا، فللولي ما تقدم من العفو والقصاص، ويأخذ الدية متى شاء‏.‏ وقد قتل عمر - رضي الله عنه - ربيئة كان ناطورًا للباقين، فإن ولي أخذ المال والباقون له قوة، واقتسموه، وتاب بعض من لم يل أخذ المال ضمن جميع المال، وأن تابوا معدمين، فهو دين عليهم، وأن أخذوا قبل التوبة، وحدوا، أخذت أموال الناس من أموالهم، وإن لم يكن له مال لم يتبعوا، كالسرقة‏.‏ ويمتنع عفو الأولياء في الدماء والأموال، وعفو الإمام إذا أخذوا قبل التوبة‏:‏ وتحرم الشفاعة؛ لأنه حد بلغ الإمام، وإن تابوا قبل القدرة عليهم وقد قتلوا ذميًا، فعليهم ديته لأوليائه؛ لأنه لا يقتل مسلم بذمي، وإن كان ذميا أقيد منه‏.‏ وتعرف توبة المحارب الذمي بترك ما كان فيه قبل القدرة عليه، وإن كان في الذمة نساء فهن كالرجال، ولا يكون الصبي محاربًا حتى يحتلم‏.‏ قال ابن يونس، قوله‏:‏ أخذت أموال الناس من أموالهم‏:‏ يريد إن كان يسرهم متصلاً من يوم أخذ المال، فإن لم يكن يومئذ، قال‏:‏ لم يتبعوا بشيء كالسرقة، قال اللخمي‏:‏ يسقط الحد لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏)‏‏.‏ والأحسن عند مالك في توبة المحارب‏:‏ أن يأتي السلطان، وتصح عند جيرانه باختلافه للمسجد حتى تعرف توبته، وقال عبد الملك‏:‏ لا يكون إتيانه للسلطان تائبًا توبة، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏من قبل أن تقدروا عليهم‏)‏، فإن امتنع بنفسه حتى أعطى الأمان، فقيل‏:‏ ينفعه كالكافر، وقيل‏:‏ لا ينفعه كالمرتد، ولا بد من حق الله عز وجل‏.‏ ولا يكون الأمان توبة وإن سأله؛ لأن تأمين الكافر ليس إسلامًا، فإن قال الوالي لأحدهم‏:‏ لك الأمان على أن تخبرني ما صنعتم ومن كان معكم، لا يؤاخذ بإقراه، ‏(‏قاله أصبغ‏)‏، قال وأرى أن يلزمه إقراره؛ لأنه ليس مكرهًا، وإذا تاب - وهو عبد - وعفا الأولياء، فهي جناية في رقبته، وإن خرج المحارب لم يقتص منه، وإنما هو قطع أو قتل، وكذلك إن قتل ليس للولي عفو ولا قود، بل الإمام يقيم الحد، وإن رأى الإمام أن لا يقتلهم، ومكن أولياء المقتول منهم، فعفوا بعد ذلك، واقتص منهم، وهذا إذا قتلوا حرابة، وأما غيلة، فينفذ العفو عند ابن القاسم على مال وغير مال، ولا ينقض الحكم؛ لأنه موطن خلاف‏.‏ وعن ابن القاسم‏:‏ ذلك في قتل الحرابة، ولا ينقض الحكم، وعن أشهب‏:‏ لا يقتل في الجماعة إلا القاتل، أو معين، أو ممسك أمسكه وهو يعلم أنه يريد قتله، وغيرهم يضرب عليه ويحبس سنة، وقول عمر - رضي الله عنه -‏:‏ لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم، كان في الغيلة، وقال عبد الملك‏:‏ إن كانوا لا يعدون على المال إلا بالكثرة، ضمن بكل واحد الجميع، أو يقوى عليه الواحد والاثنان، فحصة كل واحد فقط، وإنما فرق بين قتل القدرة وبعدها؛ لأن قبلها قبول التوبة منه ترغيب له، وحسم لفساده، وبعدها هو عاجز، فيؤخذ منه حق الله؛ وزجرًا لأمثاله‏.‏ وعندنا حقوق الله تعالى لا تسقط بالتوبة كالسرقة، والخمر، والزنا، وقاله ‏(‏ح‏)‏ وعند ‏(‏ش‏)‏ قولان، واشترط في السقوط، مضي مدة تظهر فيها التوبة، ومنهم من قدرها بسنة، ومنهم من قال‏:‏ بل مدة لو لم يكن تائبًا فيها لباشر المعصية، وحصل الاتفاق في الحرابة قبل القدرة‏.‏ لنا‏:‏ النصوص المقتضية للحدود، وقوله - عليه السلام - في ماعز‏:‏ ‏(‏إنه تاب ورجم‏)‏، ولم يوجب - عليه السلام - على راجمه شيئًا، وقال في الغامدية‏:‏ ‏(‏تابت توبة لو توبها صاحب مكس لغفر له‏)‏، ورجمها - عليه السلام - وأقول‏:‏ لو سقط لسقط بالتوبة في الحال، كالمقذوف والمحارب، لكن المدة معتبرة، فلا تكون مستقبلة، وقياسًا على القذف‏.‏ واحتجوا بالقياس على الحرابة قبل القدرة، وعلى الردة، والفرق أن مفسدتها عظيمة، فرغب في ترك ذلك بأن جعلت توبتهما تزيل حدهما؛ ترغيبًا في التوبة منهما، بخلاف الزنا والخمر، وأما بعد القدرة في الحرابة‏:‏ فلتعلق حق الآدمي بها كالقذف‏.‏ في المقدمات‏:‏ في صفة التوبة ثلاثة أقوال‏:‏ أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام، أو يكفي إلقاء السلاح ويأتي الإمام طائعًا، ‏(‏قاله ابن القاسم‏)‏، والثاني‏:‏ يترك ما هو عليه، ويجلس في موضعه، وتظهر توبته لجيرانه، وأما إن ألقى سلاح وأتى الإمام وحده فإنه يقيم عليه حد الحرابة، إلا أن يترك قبل إتيانه ما هو عليه، ‏(‏قاله عبد الملك‏)‏، الثالث‏:‏ إنما تكون بإتيانه الإمام، فإن ترك ما هو عليه لم يسقط الحد، وفيما يسقط عنه بالتوبة أربعة أقوال‏:‏ الحد فقط، والحد وحقوق الله تعالى من الزنا، والسرقة، والخمر، دون حقوق الناس، ويسقط ذلك مع الأموال، إلا ما وجد بعينه رد، ويسقط مع الدعاء، إلا مال وجد بعينه‏.‏

تنبيه‏:‏ اشترك القذف والحرابة في اشتمالها على حق الآدمي، لكن في القذف لمعين، فيمكن من إسقاطه، وفي الحرابة لعموم المسلمين، فيتعذر إسقاطه بعد القدرة، وغلب قبل القدرة حق الله تعالى مع ملاحظة عظم المفسدة، فرغب صاحب الشرع في التوبة‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ تجوز عليهم شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً يتعذرهم غيرهم، شهدوا بقتل أو أخذ مال أو غيره، ولا تقبل شهادة أحد منهم لنفسه، بل بعضهم لبعض، قال اللخمي‏:‏ إن اعترفوا بالحرابة والمال للرفقة أنتزع منهم، ويأخذ كل واحد ما سلمه له أصحابه، وإن تنازع اثنان، تحالفا واقتسما، فإن نكل أحدهما، أخذه الحالف، وإن بقي شيء لم يدعه أحد، انتظر طالبه، وإن تنازع اثنان أحدهما من الرفقة والأخر من غيرها‏:‏ يبدأ الذي من الرفقة ويحلف إن أتى الآخر بشيء، وإن ادعى المحاربون المتاع، وأقروا بالحرابة ترك لهم إن لم يدعه غيرهم‏.‏ وتقبل شهادة الرفقة؛ لأنه حد لله تعالى، ولا تقبل شهادة أب لابنه في المال، وتقبل مع غيره إن قتل ابنه أو أباه؛ لأنه حد لا قصاص لا يدخله العفو، وإن شهد بذلك بعد التوبة، امتنع؛ لأنه حق له يدخله، وتقبل شهادة الأجنبي؛ لأنهم إن قالوا في قطعنا عليكم، فقد تقوي التهمة، وإن أقروا صدقوهم، قال اللخمي‏:‏ إن صدقوهم في قطع الطريق، وادعوا بعد ذلك أنهم لم يأخذوه، منعت الشهادة للعداوة، وإذا حبس المحارب بشهادة واحد، وهو مشهور بالفساد، أخرجه وأشهره؛ لينظر إليه المسافرون، فيشهدوا عليه، وإن عظمت شهرته حتى يعرف باسمه، كذلك‏.‏ فمن شهد أنه قاطع بالاستفاضة، واشهد أخذ المال والقتل وغيره، قتل بهذه الشهادة، وهذا أعظم من شاهدين على العيان، وقال محمد‏:‏ إذا استفاض ذلك، أدبه وحبسه، فإن افترق المأخوذ منهم المتاع، وأتى من ادعى عينه، انتظر به قليلاً، فإن لم يطلبه غيره، حلف، وأخذه، ‏(‏قاله مالك‏)‏، ويضمنه إن أتى أحد، وأثبت بالبينة أنه له، ضمنه، وإنما يدفع لمن ادعاه بغير بينة إذا وصفه كما تصوف اللقطة، واختلف هل يلزم كفيلاً‏؟‏ وإن ادعاه اثنان، ونكلا عن الحلف، لم يأخذه، بخلاف النكول قبل الافتراق، ولأن المتاع لا يعدوهما قبل الافتراق، وإن قال المحارب‏:‏ المتاع لي وهو كثير لا يملك مثله،، صدق حتى تقوم بينة لغيره‏.‏ في النكت‏:‏ إذا دفع له المتاع، ضمنه، وهلك بأمر من الله تعالى، لا يضمنه إن أخذه بشاهد ويمين أو بينة، ثم جاء ما هو أقطع من ذلك، وفي الجواهر‏:‏ إذا شهدوا لأنفسهم، مع الشهادة لغيرهم، كقولهم‏:‏ أخذوا مال رفاقنا ومالنا، ردت الشهادة، إلا أن يكون يسيرًا، فيجوز لهم ولغيرهم‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب‏:‏ إذا قامت بينة على محارب، فقتله أحد قبل تزكية البينة، فإن زكيت، أدبه الإمام؛ لأنه إنما جنى على حق الإمامة، وإلا قتل؛ لأن الأصل‏:‏ عصمة الدم‏.‏

فرع‏:‏

قال ابن يونس‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إن ولى اللص مدبرًا، لا يتبع، ولا يقتل، إلا إن قتل، ويقتل الأمير من اللصوص إذا قتل وإن لم يبلغ الإمام، ومتى قتل واحد منهم قتلوا كلهم ولو كانوا مائة ألف‏.‏ قال سحنون‏:‏ يتبع المحارب ويجهز عليه، وقال ابن القاسم‏:‏ لا يجهز عليه لاندفاع شره‏.‏

فرع‏:‏

في المقدمات‏:‏ إن ارتد وحارب في ردته فقتل، وأخذ المال، قتل ولا يستتاب كما يستتاب المرتد، ولا ينفذ عفو الأولياء عنه، لأن الحرابة حقها لعامة المسلمين، حارب بببلد الإسلام، أو دار الحرب‏.‏ فإن أسلم المحارب في ردته بعد أن أخذ وقبل أن يؤخذ، وحرابته ببلد الحرب، فهو كالحربي يسلم، لا يتبع بما صنع في أرض الحرب، أو في بلد الإسلام، سقط حكم الحرابة وحده، ويغرم المال، ويتبع، إن لم يكن له مال، كالمستهلك بغير حرابة، ويحكم عليه في القتل والجراح بما يحكم به على المرتد، إذا فعله ثم أسلم‏.‏ وهذا أصل اختلف فيه قول ابن القاسم، فمرة نظر للقود والدية يوم الفعل، ومرة يوم الحكم، وجعل القود يوم الفعل، والدية يوم الفعل، ومرة يوم الحكم، ومرة فرق، فجعل القود يوم الفعل، والدية يوم الحكم‏.‏ فعلى اعتبار يوم الفعل في الجناية والدية‏:‏ إن قتل مسلما أو نصرانيا عمدا، أقيد منه؛ لأنه كافر يوم الفعل، والكافر يقتل بالكافر،

والمسلم بالمسلم، أو خطأ، فالدية على المسلمين؛ لأنهم ورثته يوم الجناية، ولا عاقلة له يومئذ‏.‏ وعلى ملاحظته يوم الحكم‏:‏ يقتل بالمسلم دون النصراني، والدية في ماله، وإن قتلهما خطأ، فعلى العاقلة؛ لأنه يوم الحكم مسلم‏.‏ وعلى هذا يجري القول الثالث‏.‏ وفي النوادر‏:‏ لو لحق بدار الحرب، فقاتلنا وأسرناه، استتابه الإمام وقبل توبته، وإن أبى، قتله على الردة والحرابة، فإن تاب لزمه حق الله، وحق الناس، ولا يزيل ذلك عنه ردته، ‏(‏قاله الملك‏)‏‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ قال مالك‏:‏ ‏(‏إن ظفرت باللص - وهو مشهور - فارفعه إلى الإمام، وإلا فالستر أحسن، وليس بالبين‏)‏‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ حكم المحارب في الغرم حد أم لا، موسرًا أم لا، حكم السارق، قال سحنون‏:‏ إذا أخذ ووفره متصل، لزمه بالمال، وصداق المكرهة، وقيمة المستهلك، ودية النصراني، وقيمة العبد، وإن لم يتصل فورًا، لم يتبع بشيء، وإن لم يجد لزمه في ماله وذمته‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ الجرح الساري يحتمل القتل‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا اجتمعت عقوبات الآدميين، كالقذف، والقطع، والقتل، وطلبوا جميعًا جلد، ثم قتل، ودخل القطع في القتل، وحدود الله تعالى، كالخمر، والزنا، والسرقة، فالقتل يأتي على ما قبله‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا اشتهر فلان بالحرابة، فشهد عليه من يعرفه بعينه‏:‏ أنه فلان المشهور، حد‏.‏